الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
ويحل منه ما لا يضر، كالحبوب والفواكه والثمار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] وهذه كلها من الطيبات، ولأن ذلك إجماع ولا خلاف فيه.
و(الضرورة التي يباح فيها له أكل ذلك): هي خوف التلف على نفسه، أو يخاف إن لم يأكلها مرضا مخوفا، أو أن يكون ماشيا فيعجز عن المشي إن لم يأكلها أو يعجز عن الركوب إن كان راكبا وينقطع بذلك عن رفقته، أو يكون به داء لا يذهبه إلا أكل النجس، فأما إذا كان به داء يطول ولكنه غير مخوف كحمى الربع فلا يحل له أن يتناول النجس لأجلها، وإن كان به داء لو لم يتناول الدواء النجس امتد وصار مخوفا فهل له أن يتناول الدواء النجس؟ فيه قولان، حكاهما في "العدة": أحدهما: يحل له، كما لو كان مخوفا. والثاني: لا يحل؛ لأنه في الحال غير مخوف. إذا ثبت هذا: وأنه يجوز للمضطر أكل الميتة فله أن يأكل منها ما يسد به الرمق، وليس له أن يزيد على الشبع. وهل يجوز له أن يشبع منها؟ فيه قولان: أحدهما: له ذلك؛ لأن كل ما جاز له أن يأكل منه ما يسد به الرمق جاز له أن يشبع منه، كالحلال. والثاني: ليس له ذلك - وبه قال أبو حنيفة، وهي إحدى الروايتين عن مالك وأحمد - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وبعد سد الرمق هو غير مضطر. وحكى الطبري: أن من أصحابنا من قال: إن كان في بلد لم يجز له أن يشبع؛ لأنه يرجو وجود طعام طاهر، وإن كان في سفر لا يرجو وجود ميتة أخرى ولا طعام طاهر فله أن يشبع.
أحدهما: يجب عليه، ويأثم إذا لم يأكل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وفي ترك الأكل تهلكة. والثاني: لا يجب عليه؛ لأن له غرضا في تركه، وهو أن يجتنب ما حرم عليه، كما يجوز له أن يغمس نفسه في العدو وإن كان يعتقد أنه يقتل. قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح.
إذا ثبت هذا: فإن كان مع المضطر عوض عن الطعام.. لم يجب على صاحب الطعام بذل طعامه له إلا بدفع العوض من المضطر؛ لأنا إنما أوجبنا على صاحب الطعام بذل طعامه لدفع الضرر عن المضطر، فلا يجوز أن يدفع عنه الضرر، ويلحق الضرر بصاحب الطعام. ويجب على المضطر بذل العوض لصاحب الطعام وجها واحدا، بخلاف النجاسة؛ لأن في النجاسة لا يجب عليه ـ في أحد الوجهين ـ ليتجنب المحرم، فهذا لا يوجد هاهنا. فإن بلغ المضطر إلى حالة لا يمكنه دفع العوض... وجب على صاحب الطعام بذل طعامه قبل الدفع؛ لأن التأخر عن ذلك يفضي إلى قتل المضطر. وإن لم يكن مع المضطر مال.. لزمه أن يلتزم العوض بذمته. وحكي عن بعض الناس: أنه قال: يلزم صاحب الطعام بذل الطعام له بغير عوض، كما لو رأى من يغرق أو يحترق.. فإنه يلزمه أن يخلصه من غير اشتراط عوض. دليلنا: أن الذمة تجري مجرى المال؛ لأن التصرف ينفذ فيها، كما ينفذ في المال، ثم ثبت: أنه لو كان معه مال.. لم يلزمه البذل بغير عوض، كذلك الذمة. وأما تخليص الغريق والمحترق: فإن أمكنه موافقته على أجرته.. لم يلزمه تخليصه إلا بعد أن يبذل شرط العوض، وإن تعذر ذلك.. وجب عليه تخليصه قبل ذلك، وكذلك في الطعام مثله. فإن امتنع صاحب الطعام من بذله بعوض مثله.. فللمضطر أن يكابره على أخذه ويقاتله على ذلك.. فإن قتله صاحب الطعام.. وجب عليه ضمانه بالقصاص إن كان مكافئا له، أو بالدية إن كان غير مكافئ له. وإن قتله المضطر.. لم يجب عليه ضمانه بقصاص ولا دية ولا كفارة؛ لأنه قتله ليدفع عن نفسه. وكم القدر الذي يجب على صاحب الطعام بذله، ويجوز للمضطر مكابرته عليه؟ فيه قولان: أحدهما: قدر ما يسد به رمقه. والثاني: ما يشبع به، كالقولين في الميتة. فإن طلب صاحب الطعام بطعامه أكثر من عوض المثل ولم يتمكن المضطر من مكابرته على أخذه، أو كان قادرا على ذلك لكنه ترك مكابرته تجنبا لإراقة الدم، فإن أمكنه أن يخادعه ويشتريه منه بشرط باطل.. كان له ذلك، ولا يلزمه إلا قدر قيمته، وإن لم يمكنه ذلك فاشتراه بأكثر من عوض المثل.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه ما عقد به؛ لأن العقد خلا مما يفسده. والثاني: لا يلزمه إلا قدر قيمته؛ لأنه كالمكره على ذلك. وإن بذل له الطعام فأكله، ثم اختلفا.. فقال صاحب الطعام: بذلته بعوض، وقال المضطر: بل بذلته بغير عوض.. ففيه قولان، حكاهما في "العدة": أحدهما: القول قول المضطر مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته منه. والثاني: القول قول صاحب الطعام مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه ما يرضى بخروج ملكه من يده إلا بعوض. وإن كان صاحب الطعام مضطرا إلى طعامه.. لم يجب عليه بذله لمضطر آخر إلا أن يكون المضطر الآخر نبيا.. فيجب على صاحب الطعام إيثاره على نفسه؛ لأنه يجب على الإنسان أن يقي نفس النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفسه.
تركه وأكل الميتة، وإن كان مريضا ووجد مع غيره طعاما يضره ويزيد في مرضه.. كان له تركه وأكل الميتة).
أحدهما: يعدل إلى الميتة، ولا يجوز أكل مال الغير ـ وبه قال أحمد ـ لأن إباحة الميتة منصوص عليها في القرآن، وأكل مال الغير بغير اختياره مجتهد فيه، فكان تقديم الميتة أولى. والثاني: يأكل طعام الغير؛ لأنه طاهر، فكان تقديمه أولى. وهل له أن يشبع من مال الغير؟ فيه طريقان، حكاهما في "العدة": أحدهما من أصحابنا من قال: فيه قولان كالميتة. والثاني: منهم من قال: ليس له أن يشبع من مال الغير قولا واحدا؛ لأن المنع من أكل مال الغير لحق الآدمي، وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق.
أحدهما من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنه إذا ذبح الصيد صار ميتة.. أكل الميتة وترك الصيد. لأنه يلزمه الجزاء. وإن قلنا: لا يصير ميتة.. أكل الصيد؛ لأنه طاهر. والثاني: منهم من قال: إذا قلنا: إنه يصير ميتة... أكل الميتة. وإن قلنا: لا يكون ميتة.. ففيه قولان. وإن وجد المحرم ميتة ولحم صيد، فإن كان ذبحه محل... فهو ملك له، فيكون على الوجهين فيمن وجد الميتة وطعام الغير وإن كان ذبحه هو قبل إحرامه، فهو طعامه يأكله ويدع الميتة. وإن كان ذبحه هو بعد إحرامه أو ذبحه محرم غيره، فإن قلنا: إنه لا يصير ميتة فالصيد أولى؛ لأنه طاهر. وإن قلنا: إنه يصير ميتة فوجهان: أحدهما قال القاضي أبو الطيب: هو بالخيار: بين أن يأكل الميتة، وبين أن يأكل من لحم الصيد؛ لأن كل واحد منهما ميتة. والثاني: قال الشيخ أبو حامد: أكل الميتة أولى؛ لأنه قد قيل: إن في أكل هذا اللحم الجزاء. وإن وجد ملك الغير وصيدا وهو محرم.. فذكر الطبري في "العدة": إن قلنا: إن الصيد يصير بالذبح ميتة.. تناول ملك الغير، وإن قلنا: لا يصير ميتة.... ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يتناول مال الغير؛ لأن في قتل الصيد هتك حرمة. والثاني: أن تناول الصيد أولى؛ لأن المنع منه لحق الله تعالى، وحقوق الله تعالى تقبل المسامحة. والثالث: أنهما سواء. وإن وجد الميتة والصيد وطعام الغير، فإن قلنا: يصير الصيد ميتة.. فمال الغير مع الميتة أولى من الصيد، وأيهما أولى؟ فيه وجهان مضى تعليلهما. وإن قلنا: لا يصير الصيد ميتة.. ففيه قولان: أحدهما: الميتة أولى من الصيد ومال الغير. والثاني: هما أولى من الميتة، وأيهما أولى؟ فيه ثلاثة أقوال، وقد مضى ذكرها.
قال ابن داود: أباح الشافعي أكل لحم الآدمي! فنعارضه: بأنك لم تجعل للنبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اضطر أن يأكل لحم ميت، بل تتركه حتى يموت؟ وقال أحمد: (لا يأكله). دليلنا: أن حرمة الحي آكد من حرمة من وجب قتله، أو من الميت، ولأنه لا خلاف: أن قوما لو كانوا في سفينة وخافوا الغرق ومعهم ميت.. جاز لهم طرحه في البحر؛ لتخف السفينة، فكذلك هاهنا. فإن لم يجد المضطر شيئا يسد به رمقه.. فهل يجوز له أن يقطع عضوا من بدنه ليأكله؟ فيه وجهان: أحدهما قال أبو إسحاق: يجوز له ذلك؛ لأنه يجوز له حفظ نفسه بقطع بعضه، كما إذا وقعت به أكلة، فكذلك هاهنا مثله. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن الخوف عليه من ذلك أكثر.
وإن لم يجد غير الخمر واحتاج إليها للعطش أو للتداوي.. ففيه أربعة أوجه: أحدها: لا يجوز شربها بحال؛ لأنها مما يجب الحد بشربها، بخلاف الميتة. والثاني: يجوز شربها؛ لأنه مضطر إلى شربها. فهو كالمكره. والثالث: يجوز شربها للعطش؛ لأنها تروي في الحال، ولا يجوز شربها للتداوي؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم». والرابع: لا يجوز شربها للعطش؛ لأنه يزداد إلهابا، ويجوز التداوي بشرب اليسير منه.
وقال أحمد: إذا مر ببستان غير محوط وفيه ثمرة رطبة.. جاز له أن يأكل منها في إحدى الروايتين ـ لما روى أبو سعيد: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتيت على حائط بستان.. فناد صاحبه ثلاثا، فإن أجابك وإلا.. فكل من غير أن تفسد». ودليلنا: قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» فإن صح ما رواه أحمد.. حملناه على المضطر، بدليل ما رويناه.
وقال أحمد: ضيافة المسلمين واجبة لبعضهم على بعض؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليلة الضيافة واجبة على كل مسلم». دليلنا: أنه غير مضطر إلى طعامه، فلم يجب عليه بذله، كما لو لم يأت إليه، والخبر محمول على الاستحباب، كقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غسل الجمعة واجب».
وحكي عن بعض أصحاب الحديث: أنه قال: هو حلال للعبد، وحرام على الحر. دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وأعطى الحجام أجره». قال ابن عباس: (ولو كان حراما.. ما أعطاه). إذا ثبت هذا: فإنه يكره للحر أن يكتسب بالحجامة. قال الشاشي: واختلف أصحابنا في علة كراهته، فمنهم من قال: لأجل مباشرة النجاسة. فعلى هذا: يكره كسب الكناس والزبال والقصاب. وفي الفصاد وجهان: أحدهما: أنه من جملتهم. والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه لا يكره لاقترانه بالطب. وأما كسب الختان: فمكروه، كالحجام. والثاني: أن كراهة الحجامة لدناءتها، وهو ظاهر مذهب الشافعي. فعلى هذا: يكره كسب الدباغ والقمام، وفي كسب الحمامي وجهان، وفي كراهة ذلك للعبد وجهان، الصحيح: لا يكره؛ لأنه دنيء. قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يسعى بذمتهم أدناهم» وأراد به العبد. واختلفوا في أطيب المكاسب: فمنهم من قال: الزراعة. ومنهم من قال: الصناعة. ومنهم من قال: التجارة، وقال الشاشي: وهو أظهرها، على مذهب الشافعي. وبالله التوفيق.
فأما ما لا يعتبر فيه الذكاة: كالسمك والجراد. فأما السمك: فكل ما قلنا يحل من دواب البحر.. فيحل أكل كل ما مات منه، سواء مات بسبب أو بغير سبب، مثل: أن ضربه إنسان أو حبس عنه الماء حتى مات، أو مات بحر الماء أو ببرده، أو مات حتف أنفه. هذا قولنا، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (إن مات بسبب: إما بضرب أو بحبس الماء عنه.. حل أكله ـ وإن مات ببرد الماء أو بحره.. فهل يحل؛ له فيه روايتان ـ وإن مات حتف أنفه.. لم يحل). وهذه المسألة هي المشهورة بالسمك الطافي. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96]. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (صيده: ما صدناه بأيدينا، وطعامه: ما مات فيه) وهكذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وروى أبو هريرة: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته». وروى ابن عمر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال». ولأن كل حيوان حل أكله إذا مات بسبب.. حل أكله إذا مات حتف أنفه، كالجراد.
ولأنه لا تعتبر فيه الذكاة، فلا تعتبر فيه صفة من يأخذه.
أحدهما: لا يحل؛ لقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميت». والثاني: تحل، وهو المنصوص؛ لأن أكثر ما فيه: أن تلك القطعة ميتة، ولو مات جميع السمكة.. كانت حلالا. فإن قيل: لو رمى صيدا فأبان بعضه وامتنع الباقي.. لم تحل تلك القطعة؟ فالجواب: أن الصيد غير الحوت، إذ لو مات حتف أنفه.. لم يحل أكله، فلذلك لا يحل ما أبين منه، بخلاف السمكة.
وإن ابتلع رجل السمك الصغار حيا قبل أن يموت.. فوجهان: أحدهما قال ابن القاص: يحل؛ لأن قتله بغير الذكاة جائز، وفي ابتلاعه قتله. والثاني: قال الشيخ أبو حامد: لا يحل؛ لأنه يعذبه بذلك، وقد: «نهى النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعذيب الحيوان»، قال: وهكذا لا يحل أن يقلي السمك قبل موته، أن يأخذه وهو يضطرب فيطرحه في الزيت المغلي؛ لأنه تعذيب. قال الشيخ أبو حامد: وأما السمك الهازي: وهو السمك الصغار، الذي يقلى ببغداد ولا يخرج ما في جوفه من الرجيع.. فلا يحل أكله ورجيعه فيه؛ لأن رجيعه نجس، فلا يحل أكله. فعند الشيخ أبي حامد: روث السمك نجس وجها واحدا، وفي دمه وجهان. وأما صاحب "الإبانة": فقال: في روث السمك وجهان، كدمه، أصحهما: أنه ليس بنجس. فعلى هذا: يحل أكله قبل أن يخرج.
وقال مالك والأوزاعي: (لا يحل إلا إذا مات بسبب منه) وهي إحدى الروايتين عن أحمد، واعتبر مالك في ذكاتها: قطف رأسها. دليلنا: قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» ولم يفرق. ولأن كل حيوان حل أكله إذا مات بسبب منه، حل أكله وإن كان بغير سبب منه، كالسمك.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي في "الأم" [2/206] (وأحب أن يكون من يلي الذبح رجلا مسلما بالغا فقيها؛ لأنه أعرف بمحل الذكاة، وبما يذكي به، وبكيفية الذكاة) فإن ذبح مرتد أو وثني أو مجوسي.. لم يحل أكل ما ذبح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكتاب حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وأراد به الذبائح، وهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. وإن ذبح يهودي أو نصراني من العجم.. حل أكل ذبيحته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكتاب حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وأراد به الذبائح. ولأن لهم حرمة بفضل كتابهم وشرفه، فحلت ذبائحهم. ولا تحل ذبيحة نصارى العرب، وهم: تنوخ، وبهراء، وبنو وائل. وهو قول عمر وعلي. وقال أبو حنيفة: (يحل لنا أكل ذبائحهم). دليلنا: أنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل، ولم يعلم: هل دخلوا في دين من بدل، أو في دين من لم يبدل؟ فلما أشكل أمرهم.. حرمت ذبائحهم، كالمجوس.
وهذا كما قال: الأولى أن يكون الذابح رجلا بالغا: لأنه أقوى على الذبح، فإن ذبحت امرأة.. جاز؛ لما روى علقمة، عن عبد الله: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل ذبيحة امرأة». وروى نافع، عن ابن عمر: «أن جارية من آل كعب كانت ترعى غنما لهم، فرأت شاة موتى، فأخذت حجرا فكسرته، وذبحتها به، فذكر ذلك لرسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال تؤكل». ومن هذا الخبر خمس فوائد: إحداهن: أن ذكاة النساء جائزة. الثانية: لا فرق بين أن تكون حائضا أو طاهرا، حاملا أو حائلا؛ لأن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل.. الثالثة: جواز الذبح بالمروة. الرابعة: أن من ذبح شاة غيره بغير إذنه.. وقعت الذكاة موقعها. الخامسة: أن الشاة إذا خيف موتها وفيها حياة مستقرة، فذكيت.. حلت. ويحل أكل ما ذكاه الصبي سواء كان مراهقا أو غير مراهق؛ لما روي عن جابر وابن عباس: أنهما قالا: (تؤكل ذبيحة الصبي)، ولا مخالف لهما. وأما المجنون والسكران: فتكره ذكاتهما؛ لأنهما ربما أخطآ موضع الذكاة، فإن ذكيا.. حل أكل ذبيحتيهما؛ لأن القصد غير معتبر في الذكاة، كما لو قطع شيئا يظنه خشبة فكان حلق شاة، هذا هو المشهور. وقال القاضي أبو حامد: في ذبيحة الصبي والمجنون قولان، أظهرهما: أنها تحل. قال: وكذلك السكران إذا أسقطنا حكم طلاقه. إذا تقرر هذا: فإن المرأة أولى بالذكاة بعد الرجال البالغين من الصبي؛ لأنها مكلفة، ثم الصبي أولى من اليهودي والنصراني لأنه مسلم، ثم اليهودي والنصراني أولى من السكران والمجنون؛ لأنه يخاف منهما قتل الحيوان. وتكره ذكاة الأعمى؛ لأنه لا يؤمن أن يخطئ المذبح، فإن ذبح.. جاز؛ لأنه لم يفقد غير النظر، وذلك لا يوجب التحريم. وتحل ذكاة الأخرس؛ لأنه لم يفقد أكثر من نطقه، وذلك لا يوجب التحريم. |